فهم المنطق خلف عنف النظام السوري
نوفمبر 16, 2022
على الرغم من التوثيق الجيد لاضطهاد الدولة السورية وعنفها ضد السكان من خلال الكم الهائل من شهادات الضحايا طوال النزاع المسلح الذي استمر أكثر من ١١ عامًا في عموم البلد، يبقى المنطق خلف هذا العنف مفهوماً بشكل أقل - من هم المستهدفين من قبل النظام وما هي الأضرار الناتجة هذا الاستهداف؟ ولماذا يستمر العنف والاضطهاد ضد بعض الجماعات حتى بعد انخفاض الأعمال العدائية المباشرة، أو حتى بعد لجوء هذه الجماعات خارج البلاد؟
بينما يمر ضحايا العنف بتجارب شخصية (الاحتجاز والقصف، والحصار والنزوح)، تبقى التجربة الموحدة للمجموعة الأوسع التي ينتمي إليها هؤلاء الضحايا (أي تجربة الأسرة، أو مجموعة القرابة، أو الحي أو البلدة، أو التنظيم المدني أو السياسي، إلخ...) مرتبطة بنوع من العنف الذي يستهدف هذه المجموعات خصيصاً ويقوم النظام به بأساليب متعددة. هذا العنف والاضطهاد ضد هذه المجموعات هو ذو طبيعة ممنهجة ومتكررة، ويستمر حتى يومنا هذا.
تظهر علاقة وثيقة بين الأضرار الناتجة عن النزاع المسلح عند المجموعات الأكثر تأثراً به، بحيث يرتبط عدد حالات الاعتقال في إحدى العائلات بعدد الضحايا والمفقودين، والمطلوبين والمشردين فيها، وتتشعب آثار الاستهداف لتلقي بظلالها على الأفراد المحيطين بهم. حيث تمتد التجربة الجماعية للعديد من المستهدفين إلى ما قبل عام ٢٠١١ – أو عبر أجيال في العديد من الحالات - وتستمر هذه التجربة حتى الآن برغم انخفاض الأعمال القتالية وترحيل العديد من العائلات خارج مناطقها.
من خلال دراسة وتحليل أربع مجتمعات محلية في سوريا (الزبداني ودوما، والمليحة ودير العصافير) أصبح من الممكن فهم البنية الهيكلية للعنف الآنف ذكره والتجربة المعيشية المرتبطة به لكل منطقة مدروسة على حدة، ما يمثل أنماطاً واضحة في هذه المجتمعات المحلية من المحتمل أن تكون متكررة في جميع أنحاء البلاد. بالاعتماد على أكثر من اثنتي عشرة بنك معلومات تحتوي بالإجماع على عشرات الآلاف من القيود، وعشرات المقابلات النوعية مع العائلات المتضررة, بالإضافة إلى المخبرين الرئيسيين و الاستبيانات حول تجارب مختلف الفئات السكانية, ومنظمات المجتمع المدني ومنظمات التوثيق والمنظمات غير الحكومية المتصلة بهذه المجتمعات الأربعة، كان من الممكن فهم تأثير النزاع المسلح وممارسات الدولة الأمنية على هذه المجتمعات المحلية, بالإضافة إلى دور استمرارية الاضطهاد في فترة ما بعد انخفاض الأعمال العدائية المباشرة في تغيير نوايا المجتمعات والأفراد بالعودة لمناطقهم في المستقبل.
علاقة وثيقة بين الأضرار الناتجة عن النزاع المسلح
تمثل المناطق المدروسة فئة من المجتمعات التي تأثرت بشدة من النزاع المسلح، حيث انضمت شريحة كبيرة نسبيًا من السكان إلى حركة الاحتجاج في عام ٢٠١١ وشهد هؤلاء السكان ارتكاب حوادث عنف جماعي بحقهم، و تمت محاصرتهم خلال فترة النزاع المسلح بدرجات متفاوتة من الشدة، إلى حين نقطة ما يعرف بالتسويات (عندما يتم فرض شروط أمنية صارمة بحق أولئك الراغبون بالبقاء، و تهجير الرافضين لهذه الشروط قسريّاً في كل منطقة من المناطق الجغرافية المدروسة، لوحظ وجود تباين في مستوى الخسائر بين العائلات الأكثر تضرراً من النزاع المسلح واختلاف في ارتباط الأضرار الناتجة عنه، عن النتائج الذي يمكن توقعها من الأضرار اللاحقة بالمجموعات السكانية في حالة الاستهداف العشوائي. تسلط المعلومات المدروسة بطرازيها الكمي والنوعي الضوء على أنماط لاستهداف مقصود لهذه العائلات على مدى فترة طويلة من الزمن، وامتدت هذه الأنماط على مدى عقود تسبق بداية النزاع المسلح في كثير من الحالات. تجلى هذا العنف بعدة أشكال: كالاعتقالات والمذابح، والتهجير القسري وتجميد الأصول، والتظلمات المتعلقة بالإسكان والأراضي والممتلكات الخاصة. علاوة على ذلك، تم ملاحظة أنماط لانتشار الاستهداف من المجموعة المستهدفة بشكل أساسي إلى دائرتي العلاقات الاجتماعية من الدرجة الأولى والثانية المتعلقة بهذه المجموعة، وذلك على خلفية الصلة العائلية والمناطقية، والتنظيم المدني أو السياسي لهذه المجموعات.
في الزبداني، كانت العائلات التي تضم أكبر عدد من المعتقلين بحلول عام ٢٠١٥ هي أيضًا العائلات التي تضم أكبر عدد من الأسر النازحة إلى لبنان وإدلب، ووفقًا لمجموعة بيانات غير شاملة للعائلات النازحة في تلك المناطق، ترتبط الخسائر البشرية الناتجة عن النزاع المسلح أيضًا ارتباطًا وثيقًا بهاتين النتيجتين (الاعتقال والنزوح). ثبتت صحة هذه الأنماط في دوما أيضاً رغم اختلاف مصادر البيانات عن تلك المتعلقة بالزبداني، حيث لوحظ وجود علاقة وثيقة بين المحتجزين وضحايا النزاع والأسماء الموجودة في قوائم المطلوبين المسربة مع العائلات الأكثر تضررًا في المنطقة. وثبتت صحة هذه الأنماط في بنوك المعلومات التي تم تحليلها في القطاعات الجنوبية من الغوطة الشرقية أيضًا.
على الرغم من وجود تفاوت كبير في مستوى الأضرار اللاحقة بالعائلات من الناحية التراتبية، تعرضت العائلات في المرتبة ال ٢٠ أو ال٣٠ أو حتى ال٥٠ إلى العديد من الأضرار الناتجة عن النزاع وانجلى حجم التأثير الناتج عن هذه التجارب في المقابلات النوعية التي تم إجراؤها مع مجموعات تمثيلية لهذه لأسر الأكثر تضررًا في كل من المجتمعات المحلية التي تمت دراستها. حيث وضحت هذه المقابلات منطق ردة فعل المتأثرين، وكانت استجابة معظمهم للعنف الناتج عن النزاع بالنزوح إلى خارج مناطقهم، وقد تكرر هذا النزوح لأكثر من مرة في أغلب الحالات. تبدأ رحلة النزوح بالبحث عن مأوى مؤقت في المناطق الأقل تضررًا من النزاع في المجتمع المحلي (أي على مستوى الحي) لتجنب القمع المسلح للاحتجاجات أو القصف العشوائي. وقد جاءت نقطة التحول في استهداف هذه المجموعات مع بدء أعمال العنف الوحشي الجماعية، على المستويين المحلي والوطني. بالنسبة للكثيرين، كانت المذابح أو الاعتقالات التعسفية (التي تحولت إلى اختفاء قسري فيما بعد) لأقاربهم وأحبائهم، السبب الأساسي في نزوحهم بعيدًا عن منازلهم إلى مناطق الشمال الغربي السوري أو الدول المجاورة أو أوروبا.
على الرغم من الطبيعة الاستهدافية للعنف، فإن عدد العائلات والمجتمعات المستهدفة ضخم جداً. ففي كل من المناطق التي تمت دراستها، تأثرت عشرات العائلات على مدى العديد من الأجيال وعلى اتساع الفروع العائلية. بالإجمال، تمثل هذه المجموعات المستهدفة نسبة كبيرة من السكان، وقد استمر هذا العنف والاضطهاد المستهدف لهذه الفئات الأكثر تضررا حتى بعد فرارهم، حيث توجد مؤشرات تدل على أن مستوى الاستهداف وصل إلى محاولة إبادة عائلات معينة بأسرها، إما عن طريق القتل أو الاحتجاز أو النفي الدائم.
خصائص المجموعات المتضررة
في العديد من هذه العائلات الأكثر تضرراً من النزاع، يعود تاريخ تخاصمهم مع النظام إلى فترة ما قبل بدء النزاع المسلح، حيث كانت أنشطة المعارضة السلمية المبكرة لهذه عائلات أحيانًا كرد فعل عن عقود من الاضطهاد. أما بالنسبة للأشخاص الذين لم تكن لديهم مشاكل مع النظام قبل الحرب ولم ينضموا إلى الثورة على الفور، كان عنف النظام المؤدي إلى خسائر جماعية هو ما أوقع عائلاتهم ومجتمعاتهم في أعمال عنف واضطهاد لاحقة حيث إن العنف تكيف مع الظروف في كافة الحالات.
حضر انتشار اضطهاد النظام للعائلات الأكثر تضرراً من النزاع في فترة ما قبل الحرب في المقابلات النوعية بقوة، حيث كانت أسباب الاعتقالات والمضايقات التي تعرض لها أفراد الأسرة في السبعينيات والثمانينيات، والتسعينيات من القرن الماضي، والعقد الأول من الألفية الجديدة موضوعاً مشتركاً ومعروفة إلى حد كبير: مثل حملات النظام القمعية ضد مختلف المجموعات السياسية والمدافعين عن حقوق الإنسان. وجدت أيضاً أسباب على نطاق محلي محدود، مثل المشاركة في أعمال احتجاجية محدودة ضد إفلات المسؤولين من العقاب بالإضافة إلى الفساد بين الجهات الأمنية المحلية, حيث أدت هذه الخروقات من طرف النظام بطبيعة الحال إلى مشاركة الفئات السكانية بالاحتجاجات المبكرة، والتي بدورها أثارت غضب قطاع الأمن، ووضعت هذه العائلات في مرمى النيران منذ بداية الثورة. انتشر العنف إلى مجتمعاتهم المحلية المباشرة وشبكاتهم المدنية والسياسية بعد حين، مما يشير إلى اتباع النظام سياسات متطرفة للعقاب الجماعي، تشبه بدورها الأساليب التأديبية التي تستخدمها الدول البوليسية الأخرى لإخضاع سكانها.
بدأ هذا النهج الذي يشمل جماعات ومجتمعات بأسرها في استهداف المزيد من العائلات مع تزايد مستويات العنف في النزاع. ففي الزبداني، كانت الاعتقالات المبكرة في عام ٢٠١١ قصيرة المدة بشكل عام، ولكنها كانت غنية بالعنف والتعذيب. بعد اندلاع القتال في البلدة التي اصطفت مع محور المعارضة، شهد وقف إطلاق النار في عام ٢٠١٣ القبض على المدنيين الذين حاولوا العودة إلى منازلهم بشكل جماعي عند نقاط التفتيش وتعرضهم للإخفاء القسري. في حزيران / يونيو ٢٠١٢، ارتكب النظام والميلشيات التابعة له مجزرة بحق ٢١ فرداً من عائلة واحدة في دوما، هذه العائلة لم تكن قبل ذلك التاريخ عرضةً لأية اعتقالات التعسفية، ولم تشعر بأي استهداف مباشرة من قبل النظام. منذ تلك الليلة فصاعدًا، لم تتمكن الأسرة من عبور الحواجز، وتم إخفاء أكثر من ١٢ فرداً آخر منها قسريًا، وظهر ١٥ فرداً منها على قوائم المطلوبين المسربة في عام ٢٠١٨. في مناطق أخرى، مثل القطاع الجنوبي، تحول النظام من استهداف الأفراد والأسر التي كانت تعاديه من فترة ما قبل النزاعات المسلحة بالتحديد، إلى حملات اعتقال تعسفية واستهداف عشوائي ضد السكان، مما أدى بعد ذلك إلى دفع العديد ممن كانوا قد استسلموا في السابق خلال الانتفاضة المبكرة إلى الاحتجاج أو القتال أو الفرار.
تكيف العنف مع الظروف المحيطية في كافة الحالات المدروسة، حيث بلغت المذابح والاعتقالات ذروتها قبل ترسيخ خطوط المواجهة، وبعد هذه النقطة أصبح الحصار والعنف العشوائي للنزاع هما النمطان الأساسيان لعنف النظام. تسببت كلتا المرحلتين في النزوح، وفي كثير من الأحيان حصلت عمليات نزوح متعددة، حتى تم في النهاية ترحيل هذه المجتمعات المتأثرة بشدة بالنزاع إلى الشمال الغربي أو خارج البلاد تماما. تشير قوائم المطلوبين المسربة إلى أن المزيد من العنف ينتظر من هذه الجماعات أو المرتبطين بها إذا ما أرادوا العودة إلى سوريا.
العنف المستهدف والملاحقة في مرحلة ما بعد انخفاض العمليات القتالية
استمر استهداف الفئات الأكثر تضررا خلال ما يسمى بعملية التسوية نفسها. تجلى هذا الاستهداف أولاً بعمليات التهجير القسري نفسها، حيث تم ترحيل عشرات الآلاف ممن تم وصفهم في هذا البحث بواسطة حافلات إلى الشمال الغربي.
في الغوطة الشرقية، تمت وضع العديد من الذين بقوا في ملاجئ للنازحين داخليًا، حيث تم اعتقال ما يصل إلى ١٥٠٠ شخص من قبل الفروع الأمنية واحتجاز ١٢٠٠ شخصًا بشكل تعسفي ونقلهم إلى سجن عدرا المركزي بين مارس ٢٠١٩ وفبراير ٢٠١٩. حوالي من هؤلاء المحتجزين كانوا في عداد المفقودين لعدة أشهر بعد اعتقالهم. في إحدى مناطق القطاع الجنوبي للغوطة الشرقية، تم الإبلاغ عن ١٥٦ حالة اعتقال في مجموعة من ٦٠٠أسرة قررت البقاء. بدأت الاعتقالات في الملاجئ الآنف ذكرها لكنها استمرت خلال المرحلة الانتقالية لتطبيق اتفاق التسوية. ٤٥٪ من هؤلاء المعتقلين ما زالوا في عداد المفقودين ويبقى مصيرهم مجهولا إلى حد اللحظة. في ٢٠١٨، سجلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ٢٧٨ حالة اعتقال في دوما، و١٥٦ في القطاع الجنوبي. علاوة على ذلك، وفي غضون عمليات التسوية، تجلى تأثير الاستهداف بالتهجير الشبه كامل لعائلات قررت البقاء، وأظهرت البيانات المتعلقة بحالات الاحتجاز بعد التسوية استهداف مجموعات جديدة من عائلات بأسرها.
في حين أن المعلومات المتاحة تسلط الضوء على استمرارية العنف، من المرجح أن تقلل الإمكانيات المحدودة لمتابعة أمن المجتمعات المستهدفة داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام من شأن المخاوف الحالية. تشير المعلومات المتعلقة بمرحلة ما بعد انخفاض العمليات القتالية إلى أن العائلات لأكثر تضررًا من النزاع إما لم ترغب أبدًا في العودة، أو واجهت أضرارًا إضافية متعددة إما أثناء النزوح أو أثناء تجارب العودة المبكرة. في بعض الحالات، غيّرت هذه التجارب النيات طويلة الأجل لهذه العائلات. بالنسبة لأولئك المرحلين من الغوطة، أعرب القليل عن نيتهم في العودة إلى سوريا، ولم يكن لدى معظمهم أقارب عائدون إلى سوريا في الوقت الحالي. أما في الزبداني، سلطت أعداد صغيرة من عمليات العودة المبكرة "المنظمة" من لبنان الضوء على التحديات التي تواجهها المجموعات المستهدفة.
بالإضافة إلى الاحتجاز وعنف النزاع والنزوح، يتم استخدام مجموعة من الإجراءات البيروقراطية والقانونية لمواصلة استهداف هذه الفئات الأكثر تضرراً كعرقلة قضايا الإسكان والأرض والملكية، والحرمان من المساعدات والخدمات وحقوق القضاء المدني، وهدم الممتلكات ومصادرة الأصول. لعبت هذه الإجراءات البيروقراطية دور إحدى الأدوات التي يستخدمها النظام وداعموه لمواصلة اضطهاد وحرمان الفئات الأكثر تضرراً من النزاع من حقوقهم. بينما أبلغت بعض العائلات المتضررة التي شهدت عمليات عودة مبكرة عن حصول اعتقالات في صفوف العائدين، وقال آخرون إنهم لم يتمكنوا من الاحتفاظ بوظائفهم أو إيصال الكهرباء والإنترنت في منازلهم، حيث سعت البلدية أو المجتمع المحلي إلى "معاقبتهم" بناءً على تصور لأفعال قد يكون أقاربهم قاموا بها. بالإضافة إلى ذلك، حرم آخرون من الوصول إلى برامج المساعدة الإنسانية أو السلع المدعومة أو غيرها من الاحتياجات الأساسية بسبب وضعهم القانوني, كما تم الإبلاغ عن سوء استخدام الدعاوى المدنية عن طريق ادعاءات كيدية لسجن وحرمان هذه العائلات والمجتمعات من حق التصويت.
في جميع المناطق المدروسة، أفاد عدد من الأفراد أن ممثلين عن النظام طلبوا من الأشخاص المتبقين في سوريا التبرؤ من أقاربهم الذين يعتبرون "إرهابيين" في الشمال الغربي لإثبات أنه لا ينبغي معاقبتهم بناءً على تصور لأفعال قد يكون هؤلاء الأقرباء المرحّلين قاموا بها. حتى بعد خضوع هؤلاء الفئات لهذه الإجراءات الصارمة، لم تتم إعادة أي من الممتلكات والأصول المصادرة أو المجمدة من قبل النظام إلى أفراد العائلات الذين قرروا البقاء, وقد أفاد العديد من هؤلاء المتضررين أن التحكم بممتلكاتهم وأصولهم داخل وخارج البلاد أصبح مستحيلاً إما بسبب المصادرة أو التجميد، ما ترك هذه المجتمعات المتضررة بدون مواردها الشخصية أو العائلية عرضة للاستغلال. بالإضافة إلى هذه المشاك, تم الإبلاغ عن مجموعة واسعة من قضايا الإسكان والأرض والملكية من قبل المجتمعات المتضررة، والتي تتراوح من التدمير إلى الاحتلال أو حتى المصادرة.
تم تسريب قوائم المطلوبين لدى الأجهزة الأمنية السورية من بعض المناطق المتضررة عبر الإنترنت في ٢٠١٨, أشارت هذه القوائم إلى استمرار أنماط الاستهداف نفسها، وسلطت الضوء على مجموعات مستهدفة جديدة لم تظهر في بيانات الاعتقالات في وقت سابق، حيث ظهرت هذه المجموعات الجديدة في محط أنظار النظام خلال فترات الحصار لهذه المناطق. علاوة على ذلك، كان من الممكن تحديد الجهات التي أحالت الأفراد إلى قوائم المطلوبين من خلال هذه القوائم؛ أي أنه في حين أن الفروع الأمنية كانت في المرتبة الأولى بين أكثر الكيانات التي أحالت الأفراد إلى قوائم المطلوبين في أنحاء البلاد،حلت الوزارات التنفيذية مثل وزارة الإدارة المحلية والبيئة ووزارة الصناعة في المركز الثالث في المناطق التي تمحور فيها النزاع المسلح حول قطاعات الزراعة والصناعة الخفيفة وقضايا ملكية الأراضي. ما يدل على أن قضايا الإسكان والأرض والملكية والقضايا الاقتصادية ليست مجرد أداة بيروقراطية في أيدي قطاع الأمن لاضطهاد السكان، بل عنصر فعال في هيكلية النظام الأمنية.
في بعض الحالات، أدى العنف المستهدف في مرحلة ما بعد انخفاض العمليات القتالية إلى تغيير نيات المتأثرين بهذا العنف. في احدى الحالات التي تمت دراستها، فقدت أسرة تعيلها امرأة في لبنان بسبب احتجاز زوجها في عام ٢٠١٣ العديد من أقاربها إما بسبب الإخفاء القسري أو الموت تحت التعذيب. في عام ٢٠٢١، عاد شقيقها إلى سوريا وتم اعتقاله من قبل النظام هناك، مما دفعها لإرسال ابنها القاصر إلى أوروبا عبر بيلاروسيا لتجنب فقدان جيل آخر من الرجال لعنف النظام في حال تم ترحيله من لبنان. علق ابنها أثناء الرحلة في بيلاروسيا وتم اعتقاله ومن ثم إرساله إلى معسكر في روسيا. بالنسبة لهذه العائلات، لا تتعلق قرارات العودة إلى سوريا بمعايير اتفاق التسوية أو نفوذه، بل تتعلق بالخوف العميق الذي نشأ عن عقود من العنف والضرر والموت الممتد لعدة أجيال وعلى اتساع فروع العائلة تحت سلطة النظام.
مخاوف للمستقبل
يوفر هذا التقرير والاستنتاجات المستخلصة منه العديد من الأسباب لأخذ هذه العائلات والمجتمعات الأكثر تأثراً بالنزاع المسلح احتمال ارتكاب جرائم وحشية جماعية في حقهم في عين الاعتبار ضمن أية نقاشات تتعلق بإعادة التوطين أو العودة إلى سوريا، أو تلك التي تتمحور حول عمليات الانتقال السياسي أو التسوية في نهاية المطاف.
على الرغم من انصباب تركيز هذا البحث على أربع مجتمعات محلية، و الحاجة إلى إجراء المزيد من الدراسات، فإن أوجه التشابه في مستوى الاستهداف والأنماط المتكررة و المعلومات الأولية المبلّغ عنها حول الاعتقالات والمذابح والتهجير في كافة المناطق المدروسة تشير إلى أنه من المحتمل ثبوت صحة هذه الأنماط في القرى والبلدات، والمدن والأحياء ذات تجارب الصراع المماثلة في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك حمص والتضامن، والقصير وداريا، والقابون وخان شيخون وما شابهها. علاوة على ذلك، فإنه من المحتمل للمجتمعات التي يستهدفها النظام والتي لا تتصل جغرافياً، كتلك التي يشترك في المعتقدات السياسية أو المهن التي تعتبر مهددة من قبل النظام، أن ترى نمطًا مشابهًا للاستهداف. باستقراء المعلومات المتوفرة، تشكل المجموعات المستهدفة عشرات الآلاف من المفقودين والمغيبين قسرياً، بالإضافة إلى الملايين من النازحين واللاجئين. حيث يجد الكثيرون أنفسهم في عرضة للاستهداف بسبب سياسات العقاب الجماعي ضد المجتمعات التي يتبعها النظام، أو حتى بسبب تواجدهم قرب عنف النظام الوحشي.
بالنسبة للعديد من صانعي القرار والدبلوماسيين، يُنظر إلى الصراع السوري الراكد حالياً – بالإضافة إلى أزمة النزوح الجماعي المحيطة به - على أنه يمكن مقارنته ببيئة مثل أفغانستان قبل عام ٢٠٢١. يشير هذا البحث إلى أن الصورة طويلة المدى لعودة اللاجئين إلى سوريا لها قواسم مشتركة أكثر مع ميانمار بدلاً من أفغانستان، حيث أدت العودة المبكرة للاجئين الروهينجا والنازحين داخليًا إلى مقاطعة راكين إلى استمرار انتهاكات الحقوق التي أفسحت المجال لمزيد من أعمال العنف الوحشي الجماعي والإبادة الجماعية والنزوح.
لا يتضمن هذا البحث توصيات لصورة عودة اللاجئين والنازحين فحسب، بل يثير أيضاً أسئلة حول التأطير المقبول على نطاق واسع للعنف باعتباره تجاوزًا سلطويًا مقترنًا بنزاع عنيف قد انخفضت حدته في الوقت الحالي. حيث أنه مع تقبل الكثيرين لبقاء بشار الأسد في السلطة، يتم إجراء حسابات حول مستوى واتساع نطاق الإصلاحات السياسية والسلوكية التي يمكن اعتبارها مقبولة أو ممكنة. يشير هذا البحث إلى أنه على الرغم من كون أي إصلاحات ستظل موضع ترحيب إذا كان من الممكن تحقيقها، فإن تطبيقها على نطاق ضيق لن يكون له تأثير كبير إمكانية إعادة دمج الأراضي السورية الثلاث في دولة واحدة، أو السماح للسوريين بالعودة بأمان إلى وطنهم.
هذا المقال مأخوذ من بحث مفصل تم إنتاجه في الأصل كجزء من برنامج سياسة سوريا التابع للمعهد الأوروبي للسلام, و بدعم من المملكة الهولندية. بحث أصلي من تأليف فادي الدح و إيمّا بيلز, و توم رولينز و ندى إسماعيل, مع اسهام مجموعة واسعة من منظمات المجتمع المدني و منظمات التوثيق, و الباحثين و منظمات التوثيق, و الشبكات الاجتماعية و الأفراد الذين كانت اسهاماتهم جوهرية لهذا البحث و تحتل سلامتهم الشخصية أعلى سلم الأولويات.